العودة ثانية إلى بغداد: من التفاؤل إلى اليأس

المقاله تحت باب  منتخبات
في 
09/01/2011 06:00 AM
GMT



سافرنا على متن طائرة الشرق الأوسط، التي أقلعت في الوقت المحدد، وصلنا مطار بغداد واستقبلتنا الوجوه العراقية، فقد أختفت الوجوه الاميركية، التي كانت تتجول برشاشاتها، تراقب القادمين والمغادرين، مثيرة الرعب والفزع في قلوب المسافرين.
خرجنا من المطار وسارت السيارة في الشوارع الرئيسة التي تقطعها نقاط التفتيش المنتشرة في جميع أنحاء بغداد. نظرت إلى أشجار النخيل الشامخة والتي أصيب بعضها بشظايا القذائف فظلت واقفة بلا رأس تتحدى الانسان، وأشجار جوز الهند المهملة، التي تئن من ثقل حمل أوراقها اليابسة، وبقايا أشجار الكاليبتوس المنحنية. وصلنا شارع "طه" فلم أعرفه. إذ كلما أزور بغداد أجدها قد تَرّدت، فأحاول أن أتعرف على ملامحها من جديد، وكأنني غريبة عنها لم أترعرع بين شوارعها وبيوتها وساحاتها و"دجلتها".
لذا فوجئت بالشارع كما فوجئت به في المرة السابقة، فقد أرتفعت أكياس الزبالة بجانب القواطع الممتدة في بدايته، وعندما سألت عن عمال التنظيف التابعين لأمانة العاصمة، كان الجواب: لا يرفعون أكوام الزبالة من دون رشوة يتقاضونها من أحد الساكنين في الشارع. لذا أصبح من المعتاد أن تدفع الرشوة لكي ترفع الزبالة من الشوراع وإلا فإن الزبالة تبقى قابعة أمام دورهم، تتطاير أكياس النايلون بألوانها المختلفة كلما هبت نسمة من الهواء. انتشرت الرشوة في البدء بتشجيع من صدام حسين، في التسعينات من القرن الماضي، فشملت الدوائر الحكومية ولم ينج منها حتى القضاء، وأصبح قبول الرشوة والسرقة جزء من سيكولوجية معظم الناس.
بعد يومين من وصولنا، أمطرت الغيوم المتكاثفة بغزارة لبضع ساعات، ففاض الشارع بالمياه، وانقلب إلى برك من الماء والأوحال، ووصلت الحال أن وضع جسر لعبور الشارع من جهة إلى الجهة الأخرى. فقد قُصفت محطات الكهرباء في حرب الكويت وتعطلت معها المجاري، ومنذ ذلك الحين يعاني أهالي بغداد من هذه المشكلة البعيدة عن الحل على ما يظهر! كبعد الحكومة والمسؤولين عن المجتمع.
خلال فترة عشرة أيام قضيتها في بغداد خرجت مرتين من الدار، فشاهدت ما حل ببغداد. ليس هنالك شارع من دون حفر كبيرة تتخلله، وليس هنالك رصيف يمكن السير عليه، من دون الصعود والنزول في الحفر. لكن الشوارع خالية من تعليق صور المسؤولين في الشوارع، فليس هنالك صور لرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس البرلمان وهذه ناحية إيجابية. لكن معظم الشوارع تزينها صور الإمام الحسين، صور أضفى عليها المصور أو الرسام من مخيلته، فرسمه بعينين خضراوين يطوقهما الكحل الاسود، وبشرة بيضاء مائلة إلى الحمرة، لا علاقة لها ببشرة أهل الحجاز بل هي أقرب إلى شكل أوروبي من أصل آري، في تمام الصحة والعافية.
كما كانت القدور الكبيرة منتشرة في الشوارع الفرعية من المدينة، والطبخ مستمر حتى بعد أن انتهت عاشوراء، وكأنهم يعوضون عن حرمان ما مروا به من فترة منع ممارسة الطقوس تحت حكم صدام حسين. فالشعب المحاط بالاهمال في أبسط قضايا الحياة اليومية، يجب اشغاله بالطقوس، وكثرة الطقوس هي اشباع الناحية السيكولوجية، بإلهائه باللطم والبكاء وإقامة المناسبات الدائمة في التنفيس عن همومه. فقد علمتُ أن هنالك 62 يوم عطلة في السنة، عدا عطلة اليومين في الاسبوع، فالعراقيون عاطلون عن العمل أكثر من ثلث السنة، هذا في ما لو عملوا في الأيام الأخرى.
أصبحت بغداد إحدى أبشع المدن في العالم، فالبناء العشوائي البعيد عن الذائقة والتناسق يهيمن على مفاصل المدينة، والحس بالجمال منعدم تماماً. إذ ان معظم الطبقة الوسطى التي هاجرت في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، تعرض الآن بيوتها وأملاكها للبيع، فتتلاقفها الطبقة الجديدة التي نشأت مع صيغة الحكم الجديد. وهي طبقة ما دون المتوسطة، كانت محرومة في السابق، وبدل تعمير البيت وإدامته، كل همها منصب على تهديم البيت الذي اشترته وإنشاء ثلاثة أو أربعة بيوت جديدة محله، من دون أي اشراف أو اعتراض على المخالفات التي شملت أحياناً حتى الرصيف. إن نهج الهدم والبناء المتأصل في بنية سيكولوجية المجتمع العراقي وهو نهج يرجع إلى مئات السنين.
أما الألوان المستعملة في صبغ تلك الأبنية الملتصقة ببعضها، فهي الألوان المختلفة من الأحمر أو الأخضر أو النيلي أو غيرها من الألوان الفاقعة التي تناسب فساتين النساء المبهرجة وليس ألوان العمارات والبيوت. وبدل من أن تهتم أمانة العاصمة يإدامة تراث ومعالم مدينة بغداد، صبت جل جهدها وإهتمامها في إصدار القوانين التي تتعلق بالقضاء على الرقص والشرب في الحانات والملاهي الليلية والنوادي الاجتماعية. وإلغاء تدريس الموسيقى والمسرح، وهو اتجاه متشدد لا يختلف عن الموقف المتشدد من قبل الاصوليين في العالم الاسلامي.
كانت الأجواء مشحونة بتكوين الوزارة الجديدة التي ضربت الرقم القياسي في العالم ودخلت كتاب "غينيس"، فالحديث يدور حول لمن سيكون هذا المنصب وهل المنصب من المناصب الرئيسة أو"ديكور" أي من المناصب الاسمية. والمعركة دائرة بين القوى المتنازعة في ما بينها، لكن الشعب في وادٍ والحكومة في وادٍ آخر. ولم يزل المجتمع المتفرج في انتظار السلطة في ما لو ستكون سلطة فعّالة.
كلما أترك بغداد وأتوجه إلى الطائرة أحس بألم في أعماقي، ألم يشوبه نوع من التفاؤل، لكني شعرت هذه المرة باليأس، رغم شمس بغداد الدافئة التي سرت في عروقي، ولكي ينقلب اليأس إلى تفاؤل يحتاج العراق إلى أجيال عديدة للتخلص من التركة التي يرزح تحتها.